منوعات

الى أمنا لوسي

يقول كارل ساغان: “ان كل ما فينا هو من النجوم”، ليس فقط المادة التي تكوّننا، بل حتى الجانب الروحي الاكثر غموضاً، والذي كان مادة الميثولوجيا الدسمة.

معنى ما سبق، انه بالاضافة الى المادة المكوّنة للجسم البشري، هناك القوى المحرّكة لهذا الجسم الانساني التي تجد أصلها في النجوم.

كان الانسان لفترة طويلة امام مصدر تكويني واضح للمادة ومصدر روحي ماورائي للقوة المحرّكة، جعلنا نتطلع لكشف اليد الخفية التي دفعت بأول حجر دومينو مسبّب لهذا الصخب الكوني.

ربما لن نستطيع البحث بكل القوة المحركة لما يسمى بـ”النفس الانسانية”، لكن سنحاول على الاقل البحث بقدرة التحليل والشعور بالخوف لدى الانسان وسلخهما عن المجال الماورائي.
إحدى القوى المحرّكة للمادة في الكون، هي الحقل المغناطيسي الذي يلفه من بدايته، لا نعرف سبب او مصدر وجوده، الا أنّ له دوراً كبيراً في تحريك الذرات ودفعها للحركة. بالاضافة الى حقل الجاذبية كقوة أخرى محرّكة للمادة، ناتجة عن التفاف النسيج الزمكاني حول المادة القابعة فيه، هناك حقلا قوة اصليان أصالة بزوغ فجر الكون.

بدأت القصة مع أمنا القرد لوسي التي عانت قسوة الطبيعة في احدى غابات افريقيا. لوسي وقعت مراراً وتكراراً، حطّمت عظامها في كل مرة كانت تقع ارضا، وكان الألم يلامس نخاعها العظمي. عندما يقع الألم على العظام، فإنّه يمسّ جوهر وجودنا، لكن هذا الالم لم يكن ليتأتى الا بفضل الجاذبية الارضية التي تعطي العظم صلابته، وما ارتطامه بالارض الا بفعل تأثيرها.

ربما لم تشأ لوسي مخاصمة الجاذبية الارضية، فبدونها لن يتخذ عظمها حيزه في الوجود. مهادنة لوسي للجاذبية راكمت فيها خوفاً مهولاً، وما الخوف سوى تراكم للجاذبية الارضية، فالوقت يمرّ بطيئاً مع الخوف كبطء الوقت لحظة مروره بجانب ثقب اسود. وما الموت الا ذروة الخوف حيث يتوقف الوقت عن السيلان وينحبس عند افق الحدث لأحد ثقوبنا السوداء.

في لحظة تفتّح الوعي، كانت لوسي على مرتفع شاهق قاب قوسين او ادنى من السقوط، الجاذبية في اقصى درجات تأثيرها حاضرة دائما لتجميد الزمن وافراز الخوف، (هذه اللحظة ما زالت محفورة في جيناتنا وإذا ما أردنا استذكارها، فيكفي أن ننظر الى اسفل من اي مرتفع شاهق)، عند النقطة التي نصل فيها الى أقصى تأثير للجاذبية، اما قد يتكوّن ثقب اسود نسمّيه الموت، واما ان يُحفّز الحقل المغناطيسي بأقصى نشاط له، مشيراً بولادة الوعي، وما الموت والوعي سوى وجهين لعملة واحدة و لسنا سوى اهتزاز دائم بين الحقل المغناطيسي وحقل الجاذبية”.

في تلك اللحظة، لمست لوسي دفة الروح الثانية (دفة النشاط الأقصى للحقل المغناطيسي الذي يقود للوعي)، وعياً ميّزها عن أقرانها، لم يكن نفخة روح في جسد لوسي الحيواني، بل اثر نشاط الحقل المغناطيسي المتعاظم في جسدها كرد فعل على وصول نشاط حقل الجاذبية والخوف لأقصى مستوياته. إنّ الحقل المغناطيسي في صراع دائم مع حقل الجاذبية الذي يسعى إلى تشويه الزمكان. حيث يتعاظم حقل الجاذبية، تتكاثر المعلومات الفيزيائية اللازمة لشرح المشهد، لكثرة الانحناءات والالتواءات الحاصلة في النسيج الزمكاني، ولا يُبسّط هذا المشهد ولا يقلّل المعلومات الفيزيائية، سوى نشاط الحقل المغناطيسي وأثره، هو الذي يسعى إلى تسطيح المشهد وتبسيطه وتقليل الانحناءات فيه، هذا الدور الذي يلعبه الحقل المغناطيسي داخل خلايانا نسمّيه الذكاء والقدرة على التحليل التي تساعدنا على فهم المعطيات عبر تبسيطها.

لم تنسَ لوسي التي كانت من فصيلة البونوبو فضل الخوف عليها، فانصاعت له، كبلها، وألزمها ان تسكن موقعاً واحداً في اسفل وادٍ سحيق عند صدع البرتين العظيم -الموجود حتى يومنا هذا في قارة افريقيا- بمأمنٍ من الكثير من مصادر الخوف والتهديد كالحيوانات المفترسة وغيرها، لزم الامر وقتا طويلا حتى قرر احد احفاد لوسي مغادرة هذا الوادي. قرد عدوانيّ تشكّل لديه كم كبير من العضلات في جسمه العلوي لكثرة ما كان يحب تسلّق الاشجار لتناول الفاكهة اليانعة في اعاليها. ساعده تسلّق الاشجار والنظر لقبيلته من اعلى على اختراع الوهم (الوعي الحاصل عن الحقل المغناطيسي في اقصى نشاطه هو وعي واهم، أما الوعي الناتج عن مستويات اقل لنشاط هذا الحقل، فيكون وعيا واقعيا متواطئا مع الجاذبية). هذا الوهم كان كرد فعل جديد للحقل المغناطيسي على تمادي الخوف وتراكم اثر الجاذبية في نفوس المجموعة.

اول سلف بشرنا بالوهم لتخليصنا من الخوف، كان قرداً من فصيلة الشامبانزي. وهمٌ ينشد الطيران والعلو والارتقاء. الطيران والصعود في السماء هو وهمنا المدلل.

الحركة بين واقع الخوف الذي يسود وبين اختراع الوهم الجديد تُسمى “ثورة”. ذكرى لوسي التي سكنت ضمير المجموعة باتت تعرف بالـ”هي” الحاكمة عصارة خوف المجموعة التي وما ان ثار عليها القرد المتمرّد حتى نفته عنها، متهمة اياه بالشيطنة. كان اسم هذا القرد يعني تراباً بلغة المجموعة، فكل الاسماء المقدسة كانت مشتقة من الارض او فعل الالتصاق بها. بعدما تم نفي القرد تراب ولكثرة تسلقه لصدع البرتين العظيم الشديد الانحدار بدأ قوامه بالانتصاب اكثر فأكثر.

كل الخير يأتي من فوق، من السماوات العليا. اما الرغبة في الطيران انسلخ عنها مفهوم الحرية والثورة. ثورات الجماعات تتناوب بين الانطلاق من الخوف الى الوعي الواهم وردّ الفعل من الوعي الواهم الى الخوف. عظيمٌ وهم بعض الحضارات بضرورة الاضحية البشرية كرّس الكثير من الخوف داخل اعضاء الجماعة، وهو خوف أوعز لها بالانتقال الى الاضحية الحيوانية.

تلك النفحة الماورائية الواعية والذاتية ربما ليست سوى نتيجة لسلوك الحقل المغناطيسي غير الملزَم بأي وعي أو هدف. والبعد الانساني للخوف والحزن ربما ليس سوى نتيجة لسلوك حقل الجاذبية غير الملزم بأي وعي أو هدف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى